قصة للكاتبة مريم عبداللطيف هل تصل في الوقت
مريم عبداللطيف/كندا:خرجت من العربة قفزاً و حثَّث خطاها مسرعة، ليس أمامها الكثير من الوقت، قد تصل متأخرة و ياله من سوء طالع أن تصل متأخرة إلى موعد عملها الأول. إشارة المرور تبدأ عدها التنازلي، تشعر بحاجة للركض كي تسبق الثواني في عدها التنازلي نحو الصفر و لا تضطر للوقوف. لكنها ليست ترتدي حذائها الرياضي و الركض في هذا الحذاء، حسن المظهر قاسي السطوة على أقدامها ليس بالفكرة الجيدة. تستلم للوقوف عند الإشارة، تخرج هاتفها من جيبها و تتفحص الخريطة مجددا، تتأكد أنها تسير في الاتجاه الصحيح. جوجل يخبرها أنها ستصل بعد خمس دقائق، ساعتها تخبرها بأن الرابعة و النصف، موعد بدأ النوبة، لن يأتي إلا بعد عشر دقائق. حساب سريع في رأسها يخبرها بأنها ستكون متأخرة. تقرر أن تهدئ من روعها بأخذ نفس عميق، ستخبرهم بأن عربة النقل أتت متأخرة ربع ساعة عن موعدها، لابد من الكذب أحياناً ولا ضير فيه! أم أن لاضير فيه فقط إذا كان الشخص كاذباً متمكنا ً؟ أن يوصم أحدٌ بأنه كاذب فهذا ضرر كبير، كبير جداً. إشارة المرور تغير لونها للأبيض معطية المارة الإذن بالعبور. خطوتان عريضتان،قفزة خفيفة و تعبر صبا الشارع ثم تعاود مشيها السريع. تصل صِبا إلى الباب الرئيسيلالسوق، حيث ستتم الأمسية، و تجده مغلقا. عليها أن تجد المدخل قبل إنقضاء الدقائق الخمس المتبقية. تمشي أمام المبنى باحثة عن المدخل الجانبي، جرت العادة أن يدخل العمال من المداخل الجانبية، أليس كذلك، تسائل نفسها. تسير باتجاه الجانب الأيمن من البنى باحثة عن الباب، تراه من بعيد تسرع نحوه، تدير مقبض الباب و تدفعه، يزأر الباب ولا يتحرك، تدفعه مرة أخرى بلاجدوى. تفكر سريعا ثم تلوح لها فكرة خبيثة، سوف تتصل بالمنسق وتخبره بأنها لم تزل منتظرة عند الباب منذ عشر دقائق، ظانة أنه سيفتح في الرابعة و النصف! ستكافئ نفسها بسجارة لاحقا على هذه الفكرة العظيمة. لكن سرعان ما تتبين أنها فكرة غبية بعظمة، فليس هناك عمال آخرون ينتظرون عند المدخل، لابد أن المنسق سيعتقد أنها غبية أو سيكتشف أنها كاذبة و هذا سيكون ضرراً كبير! هل عليها أن تفكر في الكذب أخلاقياً أم براجماتياً في هذه اللحظة؟ هل هو خطيئة أم قرار؟ تطرد نفسا من صدرها و تطرد الأفكار من رأسها. لكن، نعم أين العمال الآخرون! تسائل نفسها. لربما هناك مدخل ثالث خلف المبنى! تفكر. في ذات اللحظة، يتقدم فتى ببزة سوداء نحو المدخل الرئيسي ، تدرك أنه هنا لنفس العمل أيضا. يتراجع عندما يجد الباب مغلقا و يقف يبحلق في الباب تنظر صبا في الفتى ثم تقرر أن تذهب إلى الباب و تنظر من خلال زجاجه. ترى أشخاصا خلف البوابة تدق على زجاج الباب لكن لا أحد يلتفت، لابد أن الضجيج في الداخل عالٍ. تدق مرة أخرى لكن بقوة أكبر. ترى رجلا يلتفت إلها ثم يشير بيديه بأن السوق مغلق. تحرك شفتيها بنطق كلمة "عمل" ببطئ حتى يستوعب الرجل أنها هنا للعمل وليس للتسوق. يتقدم الرجل نحو الباب و يفتحه. تلحظ صبا أنه يرتدي بزة الأمن و له قسمات صارمة،
- مع من تعملين؟
تفاجئ صبا بالسؤال هي لاتملك أي وثيقة تثبت بأنها مسجلة للعمل خلال الأمسية. في تلك اللحظة ترى بوسترا عليه اسم الشركة التي استدعتها للعمل و تشير إليه
- معهم.
يقلب الرجل نظره بين البوستر و بينها ثم يشير لها بالدخول. تدخل صبا. الساعة الآن الرابعة و اثنان وثلاثون دقيقة. تستطيع أن تقول بأنها وصلت إلى السوق في الوقت، أليس كذلك؟ تسائل نفسها وهي تدرك أن الإجابة ستكون نفياً هي ليست في مكتب تسجيل الدخول بعد. تضغط فكرة أنها متأخرة على رأسها و تسبب لها بعض التوتر تخرج قارورة الماء من حقيبتها و تأخذ رشفتين، تعيد القارورة إلى الحقيبة، تخرج الهاتف من جيبها ثم تتصل بالمنسق يرن الهاتف مطولا لكن المنسق لايرد. تنظر حولها وتتساءل، أين المكتب الذي يجب أن تذهب إليه لتسجل دخولها؟ هي لاتعرف أين تذهب من هنا. الساعة الآن الرابعة و خمس وثلاثون دقيقة. تنظر إلى الرجل مرة أخرى لكنه يتحدث إلى شخص آخر من خلف الباب، لابد أنه الفتى "المبحلق". يدخل الفتى كما توقعت صبا ثم ينشغل رجل الأمن مع شخص آخر. لاتستطيع أن تسأله أين تذهب من هنا. تقرر سؤال الفتى لكنه يتجاوزها ماشيا دون أن يلتفت إليها
- يا لك من شخص جلف. تقول هامسة وتعزم ألا تتبعه، ستجد المكتب بنفسها. ثم إنها مشكلتهم أنها تأخرت لماذا لم يخبروها كيف تصل إلى المكتب حيث يفترض أي يتم الاجتماع قبل أن تبدأ النوبة! الساعة الآن الرابعة و سبع وثلاثون دقيقة. تسير صبا إلى داخل السوق، ترى الكثير من العمال بالبزات السوداء. تستوقف أحدهم و تسأله كيف تصل إلى المكتب
- نعم، انزلي الدرج و امشي إلى آخر المبنى ثم انعطفي يمينا. في آخر الممر هناك مصعد، خذيه إلى الطابق الثاني. سيكون المكتب على يسارك.
- فهمت، شكرا لك
****
تتبع التعليمات و تصل إلى المكتب أخيرا، الساعة الآن الرابعة و ثلاث و أربعون دقيقة. بوستر الشركة المنتصب أمام الباب يؤكد لها أنها وصلت. تغسلها موجة من التوتر، كيف تبرر تأخرها؟ تغمض عينها و تهز رأسها في محاولة لبعثرة أفكارها المتوترة حتى لا تكون لها سطوة على ما تقول و تفعل. تدخل إلى الغرفة. إضاءة خافتة، وكثير من العمال تكسوهم بزات سوداء. تستشف من خلال الضوء الخافت أنها ليست غرفة و إنما عليَّة. على طول الجدار الأيسر المحاذي للمدخل وضعت طاولات طويلة. خلف هذه الطاولات تجلس فتيات و رجل يبدو في نهاية الأربعينات. تبتسم إحدى الفتيات لصبا:
هل أنت هنا للعمل في النوبة المسائية
نعم
هلّا بحثتِ عن اسمك في هذه الورقة ، من فضلك
بالطبع
تنحني صبا و تسمك رزمة ورق التحضير. الكثير من الورق عليها الكثير من الأسماء. يبدوا أن الأمسية ستكون مكتظة. تجد اسمها، توقع بجانبه وتسجل وقت الدخول الرابعة وخمس وأربعون دقيقة.
تفضلي. تعيد صبا رزمة الورق إلى الفتاة
شكرا، ترد الفتاة باسمة. تفضلي بالجلوس إلى أن ينادى عليك. أرى أنك تردين بزة العمل، إذا رغبت بالتغيير بعد النوبة هناك غرفة صغيرة للتغيير. وتشير إلى طرف الغرفة الأيسر. تتبع عينا صبا يد الفتاة ثم تهز رأسها علامة الفهم
فهمت شكرا
تستغرب صبا عدم عبئ الفتاة بتأخرها
أدرك أنني متأخرة بعض الشيء، هلا أخبرتني مالذي علي فعله؟
لا مشكلة البتة، النوبة المسائية ستبدأ في الخامسة والنصف. سيأتي المنسق و يطلعكم على كل شيء. الآن يمكنك أن تستريحي.
الخامسة والنصف! تكاد صبا تصرخ.
حسنا شكرا لك
هراء، تذمذم في نفسها.
تنظر صبا حولها ثم تسير إلى أقرب طاولة و تجلس إلى أول كرسي وضع على طرف الطاولة. عادة صبا ألا تربك نفسها بالنظر إلى الخيارات المتاحة. توترها الخيارات الكثيرة و تجد نفسها تهرع إلى أول خيار متاح. تخلع حقيبة ظهرها و تضعها عند قدم كرسيها، تخلع سنرتها الشتوية و تضعها على ظهر الكرسي، تنظر حولها سريعا ثم تجلس. طاولات طويلة عليها كراسي من الجانبين مبعثرة في المكان. الكثير من العمال ببزاتهم السوداء يجلسون إلى الطاولات، بعضهم ينظر في هاتفه، و الآخر يبحلق في الهواء، يرتجي إن أتت عينه بعين أحد أن يجد ابتسامة في وجه الآخر، ابتسامة تمهد لحديث. لكن الأعين تتلاقى، تسترق نظرة خاطفة و تهرب. أو في أفضل الأحوال، تفتر الشفاه عن ابتسامة مقتضبة لا تشجع على قول شيء. إن لم يكن بجانبك أحد، لن يكون هناك حديث، لا أحاديث عابرة للطاولات هنا. الفتى المبحلق سبقها إلى المكان، كان يجلس وحده على إحدى الطاولات. ينهض الفتى و ينظر إلى طاولة مجاورة. يجلس إلى تلك الطاولة جمع من الأشخاص بدأوا حديثاً، يبدوا أن الفتى يفكر في الجلوس إلى تلك الطاولة، لابد أنه من محبي الثرثرة. على الرغم من أن الحديث يبدوا ساذجا و المتحدثون لا يبدون منهمكين فيه، إلا أن لا أحد منهم ينظر إلى الفتى و يدعوه للجلوس. ليست عادة الناس هنا أن يفترضوا ما يريده الشخص الآخر، يترك الكل لشأنه، ليفعل ما يشاء. تختلط حرية الاختيار بالبرود الجمعي، هل يمكن أن تكون هناك حرية فردية إن لم يكون هناك برود جمعي ولا مبالاة جمعية لأفراد المجتمع؟ يعدل الفتى عن رأيه، يعود إلى كرسيه، يخرج هاتفه من جيبه و ينشغل فيه.
آخرون يدخلون و يستقبلون بالأحضان، إنهم الرفاق!
يكتض المكان، الكل ينتظر،ازدحم المكان بالأجساد و شحّ بالأحاديث.